الكتابة عن السفر والتنقل، ترحال مثير مداده الفرح وزاده العشق ومتعته الدهشة. لا شيء أكثر إثارة من السفر بين عوالم من الثقافات والأفكار والعادات واللغات والفلكلورات والحضارات، فتلك “الأسفار العجيبة” التي لا يمكن قراءتها أو سماعها أو مشاهدتها إلا بقطع الفيافي والتحليق في عنان السماء واعتلاء مجن الريح.
السفر، يفتح آفاق الخيال ويشحذ همم الرجال ويُمهد دروب الجمال، وهو تطبيق عملي لكل تلك الحكايات والأحداث والبطولات التي طالما قُرئت من بُطُون الكتب أو سُمعت من خيالات الشفاه. فكيف يمكن التعرف على طباع وصفات وعادات وتقاليد المجتمعات والشعوب والأمم، إلا بشد الرحال إليها والتّماس المباشر بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة؟ السفر، أشبه ببحث دؤوب عن قصص من ألف ليلة وليلة أو الغوص في أعماق البحار للظفر بلؤلؤة الخلود.
السفر، أشبه بكائن حي، يمر بمراحل تكوين ونمو وتطور، فبعد أن كان مجرد ملاذ للوصول إلى الكهوف والمغارات والجبال، تطور ليصبح طريقاً لطلب العلم والمعرفة والتخصص، إلى أن تحول لظاهرة مستقلة بذاتها، أي السفر من أجل السفر فقط. لقد أصبح السفر الآن، حاجة إنسانية ضرورية، بل ملحة، تماماً كالحاجات والرغبات والمتطلبات الاعتيادية كالأكل والشرب والتملك والتعلم وغيرها من الحاجات والطموحات البشرية. ولم يعد السفر، ظاهرة أرستقراطية تُمارسها الطبقة المخملية من المجتمع، بل هو الآن ضرورة تُلامس عشق وتطلع ورغبة الطبقات المتوسطة، بل والفقيرة أيضاً.
لقد تحول السفر والترحال، إلى مواد وساعات تخصصية تُدرس في المعاهد والجامعات، وأصبح من المواضيع والتخصصات التي لها أدبياتها وأبجدياتها وآلياتها. لم يعد السفر مجرد تذكرة وحقيبة ووجهة وكمية من المال، بل هو الآن حزمة كبيرة جداً من التفاصيل الكثيرة جداً، طائرات وقطارات وباصات وسفن وفنادق ومطاعم ومتاجر وأسواق وهدايا وسياحة وثقافة وإلهام وآثار وغوص وطيران والكثير الكثير من التفاصيل التي يزدان بها قاموس السفر والترحال.
وكما للسفر فوائد سبع أو تسع كما يقول الشاعر العربي، إلا أن حقيقة وواقع السفر أكثر وأكبر وأهم من كل ذلك بكثير، ولعل من أعظم الفوائد والمنافع والإيجابيات التي يمنحها السفر لعشاق التنقل والترحال، هو اكتساب العديد من الثقافات والعادات والقدرات والطاقات، كالاعتماد على النفس وزيادة منسوب الفضول وتقدير الأمور والصبر والحكمة والاقتصاد والتنظيم وغيرها من المكتسبات الشخصية التي يحصل عليها المسافر. أما المكتسبات العامة التي تتوزع أرباحها عادة على الكثير من المجالات والقطاعات والمستفيدين، فهي الفنادق والمطاعم والأسواق ووسائل المواصلات ووسائط الإعلام وكل مكونات وتعبيرات المجتمع، أو ما يُعبر عنه بنمو ودوران حركة الاقتصاد المجتمعي، إضافة إلى ضخ أموال كبيرة في ميزانية البلد الذي يتمتع بقوة جذب وعشق للمسافرين والمرتحلين. السفر، حصالة ولكن بعدة فتحات، لا مجرد فتحة واحدة، يتصارع عليها الكل بهدف تفريغها من آخر قطعة نقود.
الكتابة عن السفر والتنقل والترحال، قضية معقدة ولكنها في المقابل، ممتعة وثرية ومثيرة، خاصة حينما تُثبت البوصلة باتجاه التقاط المفارقات والمتناقضات والغرائبيات التي تحدث عادة بالسفر. فهناك من يسافر لاكتشاف البلدان والتعرف على آثارها وتاريخها وحضارتها، وهناك من يبحث عن مظاهر السعادة والمتعة والبهجة والترفيه التي قد لا يجدها في بلده، وهناك من يعتبر سفره محاولة للهرب من الضغوطات والملل والكبت والتشدد، وهناك من يظن بان السفر سيجلب له الوجاهة والسمعة والشهرة، وهناك من لا يعرف لماذا يريد أن يسافر؟
لا أعرف إذا كانت تجربتي الأولى مع السفر تستحق أن أختم بها هذا المقال، ولكنها محاولة صادقة لتكريس وتجذير ممارسة السفر كثقافة ومزاج.
في عمر ال ١٩، سافرت لوحدي لأول مرة بحياتي لبلد خليجي لا يبعد كثيراً. السفينة الخشبية الكبيرة التي حملتني مع قرابة ال ١٠٠ مسافر ومسافرة، أغلبهم من الأجانب. كنت الوحيد تقريباً الذي بلا رفيق يؤنسه في غربته التي دشنتها هذه السفينة التي كانت تتمايل كراقصة باليه غاية في الرشاقة والخفة والمهارة، عرفت بعد ذلك أنها كانت تتجنب المياه الضحلة التي كانت أحياناً لا تزيد عن مترين. وصلت بعد ساعتين أو ثلاث، لم أعد أذكر، ولكنني أذكر جيداً، أنني عدت من ذلك البلد، وأنا رجل كبير، رغم أنني قضيت فيها ثلاثة أيام فقط. تلك الأيام القليلة في السفر، صنعت من ذلك الشاب الكسول المهمل الاتكالي، رجلاً يملك شخصية واثقة، أعجبت أسرته وأصدقاءه، بل وأذهلتهم. لقد كانت سفرتي الأولى، بداية حقيقية لأكتشف نفسي، قبل أن أكتشف البلد الذي أزوره.
السفر، بوابة مشرعة تُعانق وجه الفرح والسحر والمتعة والدهشة، والسفر يُعيد اختراع النفس، بل ويحوّلها إلى طاقة متجددة.